طنينٌ خفيف وصفيق وصل إلى أذني، لدغَ البعوض من جسدي ما استطاع إليه سبيلا؛ فامتلأت أجوافهم من دمي، وحقنوا بلُّعابهم ما تيسر لهم من الأجزاء المكشوفة، وخلّفت لسعاتهم حكّةٌ غير عادية ونتوءاتٍ تشبه حبّة العدس. ساعتان من الانتظار في ذلك الخلاء الممتد إلى اللانهاية؛ جعلتني أنا الوحيد من أكثر المتضررين في قافلة للاجئين لم يتجاوز عددها العشرين شخصاً، ببساطة لأنها كانت المرة الأولى التي أحاول فيها العبور إلى الطرف الآخر من الحدود. أمّا البقية فكانت لديهم تجارب سابقة؛ لباسٌ غطى أجسادهم من العنق حتى القدمين بشكلٍ دقيق محكم، وأنا اكتفيتُ ببنطالٍ قصير وقميصٍ خفيف، ومن الطبيعي أن ألبسَ هكذا في طقسٍ حار يستطيع المرءُ فيه أن يسّخن الماء تحت أشعة الشمس في ذلك الشهر الذي يسمّى " آب اللّهاب ".
خيوطٌ من الدم الحار سالَت من جسدي ببطءٍ وكسل شديد. ساعتان من الانتظار بصمتٍ مُدّقع نتمدد تحت شجرة ضخمة كما لو أنها شجرة الإنكايا. التدخين ممنوع، والتكلم ممنوع، والهمس واللمس والعطس ممنوع، والوقوف ممنوع، إذا أردت أن تتبوّل فعليك أن تخرج قضيبك من فتحة البنطال وتتبول، أمّا النساء فيجب أن ينتظرن إلى أن نصل إلى برّ الأمان أو يفعلنها في لباسهن. هذا ما قاله لنا الشابُ الثلاثيني " مطر " الذي سيقودنا إلى الطرف الآخر من الحدود، أو خلف قضبان السجن؛ المسألة تعود إلى التزامنا بقوانين المهرّبين الذين يرفعون أيديهم إلى السماء ويطلبون التوفيق من الله، وفي الأرض يرفعون أصابعهم العشرة في وجوه اللاجئين ويدفعونها إلى الأمام مرتين، يشيرون بها إلى المبلغ المطلوب للسفر، وهو ألفان يورو. أجرة الطريق إلى الطرف الآخر من الحدود بوسائل بدائية في زمن السرعة والتطور. لكن شاء القدر أن نولدَ في بقعةٍ جغرافية تسّمى قلعة الصمود والتصدي في الشِعارات، وفي الواقع لا أحد صامدٌ فيها سوى صور الرئيس الخالد الذي مات قبل عقدٍ ونيف، وابنه طبيب العيون الذي لا يرى أبعد من أرنبة أنفه لهذا نسافر بوسائل بدائية بأغلى الأسعار، ولا يكفي أن ندفع ما جمعناه بمرارة ونحن من بلدٍ تملؤه الخيرات بل يجب أن نذكر اسم بلدنا كما لو أننا آثمين.
سرعةٌ جنونية انطلق بها السائق المخمور في طريقٍ ملتوية كأفعى تلتفُ حول فريستها، دخانٌ كسول تناثرَ من لفافة تبغه القصيرة، ويركن مسدساً صغيراً بجانبه يضع يده عليه كل برهة، الظلام دامس والصمت يثقبُ الفراغ. لا أضواء للسيارة، نظرتُ إلى مؤشر السرعة من زاويةٍ خائفة في عيني، فرأيته يشير إلى الرقم 90. رطن بالكُردية وقال (أمامك كيس، من شعرَ بالغثيان فليستعمله لن أقف في الطريق لأي سبب).
التفتُ إلى الذين يجلسون في الخلف وقلتُ لهم ذلك، وأضفت (إن لم نمت في هذه السيارة فسنصل إلى أوربا بكل سهولة).
شعورٌ عارم يمتلكنا، تكررت أسماء الله الحسنى بهمسٍ من خلفي بعد أن نزلنا من السيارة التي حملتنا من نقطة بالقرب من محطة " أدرنة " التابعة لمدينة اسطنبول، والتي أطلقَ عليها اللاجئون اسم "مثلث الرعب"، كونها تقع على الحدود البلغارية اليونانية، جميع الناس فيها مُتّهمون بالهروب غير الشرعي أو بتجارة البشر عدا أبناء القرية، ومن يخرج من ذلك المثلث دون أن يلقى القبض عليه يتخلّص من العقبة الأولى في طريقه إلى أوربا.
"من رعد إلى مطر، خلال دقائق يجب أن تتجاوزوا الجسر، حوّل".
"من مطر إلى رعد، سنصل خلال دقيقتين إلى الطرف الآخر من الجسر، حوّل".
"من رعد إلى مطر، عُلِمْ، حوّل".
أسماءٌ وهمية اختارها المهرّبون لأنفسهم، لكنها مليئة بالعواصف؛ مطر، ورعد، وبرق. مجموعة مؤلفة من عديدٍ من أشخاص، ولا نعرف سوى هؤلاء الثلاثة.
قبل الصعود إلى الجسر القوسي طلب منّا مطر أن نمشي القرفصاء، لا مشكلة لدينا بذلك، لكن ماذا عن النساء اللواتي تجاوزن الأربعين، وتزن كلُ واحدةٍ منهن أكثر من مئتي رطل؟
مشت النساء القرفصاء بأنفاسٍ مكتومة، لكن الاحمرار كان واضحاً على وجوههن رغم النور الخفيف من ضوء القمر. طفلة صغيرة برفقة إحداهن تقول لها بخوف "خالة". فيما بعد عرفتُ بأنها ابنة أختها؛ اختفى والدها في الحرب واضطرت الأم أن ترسل ابنتها مع شقيقتها إلى أوربا، لترسل لها وفق قانون لّم الشمل بصفتها قاصراً ولم يتجاوز عمرها الحادية عشرة سنة، وتكلفة سفرها ليست مثل الشخص البالغ.
في الطرف الآخر ركضنا بسرعةٍ قصوى إلى حُرشِ يبعد عن الجسر مئتي متر، واختبئنا بين الأشجار المتوسطة الطول، كانت جيدة لإخفائنا عن أعين حرس الحدود حتى اقتربنا من النهر كثيراً فاستطعنا أن نسمع عجيجه كما لو أن أمتاراً قليلة تفصلنا عنه.
"من رعد إلى مطر خلال دقيقتين يجب أن تملأ القوارب بالهواء، حوّل"
توجه مطر إلى شجرة بالقرب من النهر، وأخرج قاربين من المطاط أخفاهما في حفرةٍ صغيرة. بعد أن امتلأت القوارب بالهواء، أرسل إشارة إلى رعد، ليجيب الأخير ويقول " من رعد إلى مطر، حين تسمع أزيزَ الرصاصة ابدأ، حوّل". دقائق قليلة امتلأت بالصمت والخوف حتى سمعنا صوت طلقة نارية من مكانٍ بعيد، يريدون أن يشتتوا انتباه رجال الشرطة بعيداً عن النهر. أنزّلنا القاربين الصغيرين اللذين يتسع كل منهما لخمسة أشخاص إلى النهر الجاري بقوة، ممسكين بطرفه كي لا ينجرف. جلسنا فيهما فوق بعضنا البعض. مدَّ مطر يده إلى حبلٍ في ضفتنا كان مخفياً بين أوراق الشجر وطلب منا التمسك به، نهاية الحبل مربوطةٌ بشجرة في الضفة الثانية. لولا ذلك الحبل لأخذنا النهر في رحلةٍ مجهولة. نهرٌ مجنون يجري بشدة كما لو أنه متطوع مع رجال الشرطة لمنع تدفق اللاجئين إلى الطرف الآخر، مئة متر عرضه تقريباً، أراد القدر أن يكون النهر الحد الفاصل بين دولتين تمتلكان طبيعةً خلّابة، لكن شعبيهما يكرهان بعضهما البعض، والطرفان يتوعد أحدهما للآخر بفقء عينيه والتهام أذنيه. تاريخٌ مليء بالعداوة بينهما، لا ولن ينتهي مادام الأتراك يملكون عقليةً لا تشبه عقول البشر ولا الحجر، هذا إن كان لديهم عقل.
" من يتكلّم اللغة الإنكليزية ؟" . سؤالٌ طرحه علينا مطر بعد أن وصلنا إلى الطرف الآخر واختبأنا بين أشجارٍ كثيفة. انتظرتُ ثوانٍ قليلة لربما كان هناك أحدٌ غيري يتكلم الإنكليزية ليقوم بالمهمة المجهولة التي يريدها مطر من متكلم اللغة، لم يكن هناك أحدٌ غيري، رفعتُ يدي ببطء وقلتُ له "أنا". أخبرني عن قيام رجال الشرطة اليونانية والألمانية الذين يقومون بمساعدة الدولة اليونانية بمنع تدفق اللاجئين، بإعادة اللاجئين إلى الطرف الآخر من النهر عنوةً، ولا يخلوا الأمر من استعمالهم الضرب أحياناً، لهذا السبب يجب أن نتصل بمنظمة الصليب الأحمر في الدولة اليونانية ونطلب المساعدة منها قبل أن تعثر الشرطة علينا وتذهب جهودنا أدراج الريح. أخبرني عن الخطة التي يجب أن ألعبها مع الصليب الأحمر في المكالمة، كي يتأكد أنهم سيرسلون فرقاً لإنقاذنا من الغابة. بعد ساعتين من مكالمتي معهم والتي استغرقت أكثر من نصف ساعة، ليتأكدوا من مكاننا وعددنا وإن كان أحدٌ يعاني من المرض بيننا، جاءت الإشارة إلى مطر في رسالةٍ نصية عن الاتجاه الذي يجب أن نسير فيه، أخبرت منظمة الصليب عن مكان بالقرب من مكاننا بناءً على طلب مطر للتأكد من قيام المنظمة بإرسال دوريةٍ تابعة لها وليست لرجال الشرطة. مشينا باتجاه قريةٍ أشار إليها مطر كانت تبعد قرابة الخمسمئة متر عن الغابة، بعدها تمنى لنا السلامة في طريقنا، وأعطاني علبة سجائره بعد أن تمزقت علبتي في الانتظار أسفل الشجرة، وأعطى رجلاً آخراً مئة يورو بعد أن أخبره أنه لم يبقَ لديه مال، فقد دفعها كلها لرعد ثمن تذكرة العبور غير الشرعية.
سيارتان من لونين مختلفين مرسومٌ على أبوابهما الجانبية صليبٌ باللون الأحمر وصلتا إلى القرية ركضنا باتجاههما ونحن نلّوح بأيدينا ونصرخ بقوة لنلفت انتباههما إلينا قبل وصول الشرطة.
نقلتنا السيارتان إلى مركزٍ للصليب الأحمر بالقرب من القرية، وتم الاعتماد عليّ في ترجمة الكلمات من الإنكليزية إلى العربية للمجموعة التي أرافقها.
ــ يجب أن تذهبوا إلى السجن حتى يتم استجوابكم وتسليمكم فيما بعد إلى مخيمات اللاجئين، وبعد الإقامة في المخيم لمدةٍ لا تتجاوز عشرة أيام لكونكم تحملون الجنسية السورية، ستحصلون على ورقة تدعى بــ"الخارطية"، وبموجبها يسمح لكم بالتجول في الأراضي اليونانية لمدة ثلاثة أشهر. هذا ما قاله لي أحد أفراد المنظمة.
في الساعة الواحدة ليلاً ذُعِرَ حارس السجن من احمرار جسدي، والنتوءات التي يخرج منها دم اتصل بأحدهم وفهمت كلمة واحدة من الحديث كله " ambulance " إذاً سيتم نقلي إلى المشفى فهم يخافون من الأمراض المعدية، وهذا من حقهم، في النهاية نحن (لاجئون).
وصلتُ إلى المشفى في البلدة برفقة ثلاثة رجالٍ من الشرطة اليونانية والأصفاد في يدي، طلبت الممرضة من رجال الشرطة أن يأخذوني إلى غرفة في نهاية الصالة، أجلسني شرطيٌ على السرير وفكَ الأصفاد من يدي وبقيَ واقفاً عند الباب مع زملائه، فهم يخافون أن أهرب، لكن خوفهم كان عادياً أمام خوف الطبيبة التي أرادت أن تفحصني، دخلت إلى الغرفة وبدأت تدقق بي وتنظر إلي وهي تتحدث مع رجال الشرطة، لم أفهم ما كانت تقوله إلى أن أتى أحدهم وقال لي " أعتذر منك لأني سأقوم بوضع الأصفاد في يديك؛ فالطبيبة ترفض فحصك دون تقييد يديك ".
دمعةٌ صامتة هبطت من مقلة عيني، فهي تعتقد أني إرهابي، آلمني الموقف كثيراً، فوضعوا الأصفاد في يديَّ مرةً أخرى، وبدأت تفحصني، طمأنتني بأنه لا يوجد شيء مخيف، كل ما في الأمر لدغ بعوض، أعطتني أدويةً لاستعملها فقط.
أربعة أيام مرت في سجنٍ صغير لا يتجاوز الستة أمتار مربع، أمّا النساء فكانوا أكثر حظاً من الرجال، فتم استقبالهم في غرفةٍ فيها أسرّة ونافذتين وبابها من خشب، لا قضبان من حديد تجعلك تشعر أنك مجرم، أربعة أيام جرى فيها التحقيق مع الجميع، وجميعهم كان يسعد حين يخرج من تلك الزنزانة القذرة التي امتلأت برائحةٍ نتنة، كما لو أنه سجنٌ في دولة متخلفة وليس في أوربا. كنتُ محظوظاً جداً بحسب تعبير أصدقائي لأنني أتكلم الإنكليزية، تم وضع طاولة لي في غرفة التحقيق وعليها زجاجة ماء نظيفة وفنجان قهوة ومنفضة للتدخين. كنتُ أقضي ست ساعات في تلك الغرفة في الأيام الأربعة، لأترجمَ الكلمات من العربية إلى الإنكليزية وبالعكس.
تم نقلنا إلى مخيمٍ يبعد قرابة الساعة عن السجن بعدها، المخيم كان من الطراز الأوربي، لا علاقة له بالسجن ولا برجال الشرطة؛ فغرفه متجاورة، وكل غرفة تحتوي على أربعة أسرّة وتلفاز وحمّامٍ خاص، وجميعها تحتوي على أنظمة تبريد، وتعامل الموظفين كان محترماً جداً.
عشرة أيام قضيناها في ذلك المخيم؛ قضيتُ اليوم الأول في الاستحمام، يومٌ كامل وأنا أزيل آثار الطريق عن جسدي بالماء الدافئ والصابون، تذمر مني أصدقائي في الغرفة، لكني لم أكترث لهم أكملت الاستحمام لأسبابٍ كثيرة، وأحدها كي لا يروا الدمعة في عيني، تركتُ ابنتي التي لم تبلغ التسعة أشهر خلفي في بلدٍ يعتقد شعبه بأنهم شعب الله المختار، وفي الحقيقة هم شعب الله المحتار لا يعرفون أصلهم ولا وجود لهم من الأساس، لكن شاء القدر أن يمنح بعض اللقطاء بقعةٌ جغرافية تقع بين قارتين، واجتمعوا فيها، وابتسم القدر لهم ليؤسسوا دولةً لهم أطلقوا عليها (تركيا). استلهم علماء لغتهم مفرداتٍ سرقوها من لغاتٍ أخرى وأطلقوا عليها اللغة التركية، ولم أجد كلمة واحدة لا أساس لها في لغة أخرى باستثناء الأرقام، أمّا الكلمات فكلها مُشّتقة من لغاتٍ أخرى، فلم يجهد علماء اللغة أنفسهم كثيراً؛ فاستحضروا كل الكلمات التي تبدأ بحرف الميم في اللغة العربية وحولوها إلى تركية، وكل كلمة في اللغة العربية تبدأ بــ " أست " هي نفسها باللغة التركية، لكن عليك أن تجاري اللهجة؛ على سبيل المثال: كلمة استخبارات يرادفها بالتركية إستهبارات؛ كلمة استقلال يرادفها في التركية إستِكلال. وهكذا قاموا باسترفاد مفرداتهم من اللغات الكُردية، والفارسية، وبعض الإنكليزية والأرمنية، وجمع الُلقطاء شعباً يشبههم وبنوا دولةً ضمن حدود دولٍ ليست لهم.
بعد إقامةٍ صغيرة في المخيم دامت لتسعة أيام، حصلنا على الورقة التي تخولّنا أن نتجول أحراراً في بلاد الإغريق، وصلنا إلى أثينا مساءً. وتمَّ الاعتماد على صديقٍ لنا ليبحث لنا عن مأوى إلى أن نجد طريقاً إلى أوربا. البعض استعان ببعض أقاربه هناك، كنا عشرة أشخاص من تلك المجموعة اجتمعنا في شقة صغيرة تقع ضمن حيٍ شعبي يسّمي " أخرا نون "، في أحد الأيام شعرنا بالملل فاقترح أحد الأصدقاء أن نزور حي الدعارة في أثينا لمشاهدة الفتيات، وتم التصويت على الاقتراح وافق سبعة على الاقتراح واثنان لم يوافقا، استثنوني من التصويت لأنهم تكفلوا لي بدفع تكاليف المواصلات وثمن العشاء في ذلك اليوم مقابل أن أترجم لهم، هكذا كانت العادة حين ننوي زيارة المتاحف وصالات الفنون، وحتى في الطبخ كان يتم التصويت على أية فكرة نريد تنفيذها. توجهنا إلى ذلك الحي الذي زاره جميع اللاجئين في أوربا. بيوتٌ قديمة تشبه أحياء دمشق القديمة.
المتعارف عليه في الحي إذا كان الضوء مُناراً أمام البيت فهناك فتاة شاغرة. انتقلنا بين البيوت ونحن نغذي أبصارنا بأجسادٍ ممشوقة كالتماثيل الإغريقية، تأتي الفتيات عاريات أو بلباسٍ خفيف تظهر الفتاة جسدها للزبائن، ويتم الاتفاق على السعر إن حصلت على إعجاب أحدهم. في أحد البيوت وقفت فتاة جميلة جداً أمامنا؛ قوامٌ ممشوق يشعُ بياضاً، عينان سوداوان، وفمٌ يشبه حبة اللوز. كان اتفاقنا في المنزل ألا نمارس الجنس مع أية فتاة، ونكتفي بالمشاهدة فقط. لكن تلك الفتاة أثارت غريزة صديقين لي، فتوسلوا إلي أن أفاوضها على السعر، وبعد أن تم الاتفاق على السعر، سألتني الفتاة بأي لغة نتكلم، قلتُ لها "الكُردية"، حين سمعت بكلمة كردي رفضت الاتفاق وقالت: لا أمارس الجنس مع الأكراد. صدمتني حين قالت ذلك، وجعلتني أشعر بالغضب. أي شيءٍ تتفوهين به؟ قلتُ لها.
كررت ما قالته وهي تؤكد على ذلك، كنت مصراً على أخذ جوابٍ مقنعٍ منها، أو سأتصل بشرطة السياحة وأقول لهم بأنها عنصرية ولا تمارس الجنس مع الأكراد.
الأمر لا يتعلق بالعنصرية، لكن كل ما في الأمر بأنه جاء رجلٌ كُردي العام الماضي وطلب مني ممارسة الجنس لمدة ساعة، بقيت بعدها أسبوعين في المشفى من شدة الألم، ومن بعدها لم أعد أمارس الجنس مع الأكراد، قالت. ضحكنا جميعاً بعد أن شرحت لأصدقائي الأمر.
بعد أسبوعين في أثينا جاء الشخص الذي يريد أن يوصلني إلى أوربا، توجهنا إلى مطار "سالونيك" ومنها إلى مطار "دوسلدورف" في ألمانيا، جرى الأمر ببساطة شديدة كنتُ أحمل جواز سفرٍ إيطالي عليه صورتي ويحمل اسم "راستيللي إستيفانو". لكن من مدينة نابولي وليس من عفرين. مساءً في الساعة الحادية عشرة توجهتُ بقطارٍ يخصص أمكنة للنوم فيه إلى العاصمة الدنماركية كوبنهاغن. في الساعة الثانية عشرة ظهيرة اليوم التالي وصلتُ إلى كوبنهاغن. في اليوم الأول من شهر أيلول سنة 2014 توجهتُ إلى المركز الرئيسي لاستقبال اللاجئين برفقة صديق أحد أقاربي، ساعدني في الوصول إلى المركز، وبعد ساعتين تم نقلي إلى مخيم بالقرب من المركز، وبعدها بعشرة أيام نقلوني إلى مخيمٍ خاص باللاجئين السوريين بالقرب من الحدود الألمانية. ما يقارب الأربعون يوماً بقيتُ في ذلك المخيم، وتمَّ بعد ذلك توظيفي في مشفى بالقرب من المخيم كمترجمٍ متطوع للاجئين كل يوم لمدة ساعتين تستقبلني الممرضة في غرفتها لمساعدة اللاجئين الذين لا يجيدون التكلم بالإنكليزية. ملأت أوقات فراغي بعد الظهر بالجلوس في المكتبة وقراءة الكتب، كانت صدمة بالنسبة لي حين عرفتُ أن الجلوس في المكتبة واستعارة الكتب مجانية، وفيما بعد عرفت بأنه قانونٌ في الدنمارك؛ حيث تُلزم الحكومة البلديات والتي يبلغ عددها 98 بلدية، بإنشاء مكتبة عامة يستطيع الناس فيها مطالعة الكتب، ومن الممكن استعارة أي كتاب لمدة شهر، وغير ذلك من النشاطات كالأمسيات الأدبية والموسيقية ونشاطات الأطفال.
نقلوني إلى شقة سكنية بعدها تبعد قرابة الساعة عن المخيم. شققٌ بين أبنية يسكن فيها خليطٌ مختلف من اللاجئين والدنماركيين، الشقق كانت تابعة للمخيم يسكنها اللاجئون الذين يحصلون على الإقامة إلى أن يتم نقلهم إلى بلديته التي يختارها بالاتفاق مع المحقق إن أمكن ذلك.
كان نصيبي بلدية تقع في جزيرة "شيلاند" بالقرب من العاصمة كوبنهاغن، وتبعد عن المركز الرئيسي للعاصمة قرابة العشرين دقيقة. وبقيتُ فيها إلى تاريخ كتابة هذه السطور. استقبلوني في فندق صغير يقع في مركز البلدية، غرفة صغيرة ومطبخ مشترك، ويقوم النزلاء في الفندق باستعماله إن أرادوا ذلك. كانت أغلب الغرف تحتوي على لاجئين جدد مثلي، تعرّفت على بعض الأصدقاء فيها، ومازلنا إلى يومنا هذا نتواصل مع بعضنا البعض. بعد شهرين أعطوني بيتاً صغيراً في منطقة هادئة بالقرب من مركز البلدية. بيتٌ صغير مكون من غرفتين وحمّام ومطبخ وشُرفة صغيرة تطلُ على منازل ريفية قليلة. في الأيام الأولى كنتُ أظن أن المنازل تلك خالية ولا يسكنها أحد لكن فيما بعد اكتشفت بأنها مسكونة، طبيعة الشعب هنا هادئة ولا تشعر بوجود أحد، بدأت حياتي الدنماركية من هذا المنزل، وذهبت إلى مدرسة اللغة، ودورة خاصة للاجئين لتعليمهم القوانين في الدولة والاندماج.
في ذلك المنزل دفعني الشوق إلى دمشق لكتابة نصوصٍ عنها، جمعتها في مخطوطة مكوّنة من 120 صفحة ونويت طباعتها، كان عنوانها (رسائل إلى الياسمين). اتفقتُ مع مدير دار نشرٍ عراقي لطباعتها، بعد أسابيع عديدة من العمل فيه على تصميم الغلاف والتنسيق والتدقيق غيرتُ رأي وتراجعتُ عن طباعتها. ولم أندم على قراري هذا. السبب الأول في ذلك؛ تذكرتُ النصوص التي كنتُ أنشرها في الصحف المحلية في سوريا سنة 2007 ـ 2008 وتوقفت بعد أن اكتشفت بأني لستُ بشاعر، فكيف لي أن أعيد التجربة وهذه المرة في كتابٍ مطبوع؟
وضعتُ الشاعر أمامي وقتلته، ولم أكرر المحاولة بعدها.
والسبب الثاني في تراجعي؛ كان السؤال الذي وقف أمامي حينها ولم أجد له معنى فيما بعد. وهو: ماذا لو تحوّلت مدينة الياسمين إلى مدينة البائسين على أيدي اللصوص الذين يحكموها؟
وانتهيت من المخطوطة من حينها.
في يومٍ من الأيام أرسل لي مركز العمل رسالة لطلب المقابلة، في المقابلة طلبوا مني إيجاد عمل للحصول على المال وإن لم أجد عملاً سيتم توظيفي في أماكن يختارونها لي مقابل عقودٍ مؤقتة مدتها ثلاثة أشهر دون راتب من صاحب العمل. هكذا كان النظام؛ إمّا أن تعمل وتحصل على مالك الخاص أو يتدخل مركز العمل في حياتك ويبدأ بالضغط عليك لتذهب إلى سوق العمل، ولا يهم شهاداتك ومرتبتك العلمية حتى ولو كنت طبيباً فقد تعمل في شركات التنظيف، المهم أن تدفع الضرائب وألا تتلقى المساعدات المالية منهم. حين أدركت تلك التفاصيل أخذت على نفسي عهداً وقلت سأبني حياتي هنا بطريقةٍ أختارها بملء إرادتي، وأن أكون سيّد نفسي، فبدأتُ العمل بعد خمسة أشهر في متجرٍ لبيع الزهور، أقوم بتنظيف النباتات من الأوراق الصفراء وسقايتها بالماء. كان العمل ممتعاً لكن كانت مشكلتي في الاستيقاظ باكراً. لم أتعوّد على الاستيقاظ باكراً في حياتي كيف لي أن أكون موجوداً في التاسعة صباحاً في المتجر؟
وانتقلتُ بعدها إلى عملٍ آخر في الليل، وتخلّصتُ من الاستيقاظ باكراً وبدأتُ بتكوين مملكتي. عقباتٌ كثيرة وقفت أمامي؛ كاللغة والأمور المادية والعائلية، ولم يخلو الأمر من مشاكل صحية فيما بعد أسوأها كان ارتفاع ضغط الدم، ما يقارب الخمسة أعوام عانيت منه بشكلٍ مرعب، قادني مرتين للإصابة بجلطة قلبية؛ الأولى كانت الأصعب، فقدتُ فيها حركة اليدين والنطق لدقائق قليلة. وفي المرة الثانية كانت وطأتها أخف واقتصر الأمر على المكوث في المشفى لوقتٍ قصير، ومن أصعب الأمراض التي تعرضت لها كان مرض البواسير؛ فسياسة الطب في الدنمارك وأغلب الدول الأوربية تعتمد على تقوية المنّاعة والتخفيف من الأدوية قدر الإمكان، ومن الطبيعي جداً أن تقول لطبيبك إنك تعاني من الصداع فيقول لك اشرب الكثير من الماء، ومن الطبيعي أن تقول له إنك تشعر بأنك لست على ما يرام أو تعاني من آلام الظهر أو الروماتيزم أو أي مرض، ويقول لك اشرب الماء. هناك معتقد لديهم بأن أي مرض جديد سببه قلة شرب الماء، لكن للبواسير علاجٌ إضافي غير الماء لن أتحدث عن طريقة استعمال دوائه، لكم أن تتخيلوا ذلك. لكن المصيبة في ذلك المرض اللعين والذي عانيت منه لسنوات طويلة، جعلني أشعر أن كل سكان الدنمارك قاموا بفحصي، لا يهم في النهاية الجميع مُعرض لذاك المرض، لكن أتألم كثيراً حين أتذكر الحادثة وقد حصلت معي، أرسلني طبيب العائلة إلى مركز خاص لمعالجة البواسير، وقمتُ بتجهيز نفسي وتوجهت إلى المركز لأتفاجأ أن التي ستفحصني فتاة دنماركية في الثلاثينيات من عمرها، وأعتقد أنها أجمل فتاة التقيت بها هنا. تألمتُ منها كثيراً حين قالت لي ببساطة (اشلح). لعنتُ البواسير والطبيب والطريق الذي قادني إليها، ففي آخر عمري أتمدد أمام فتاة جميلة لتفحص مؤخرتي.
والآن بعد مرور عشرة أعوام في هذه البلاد، عشتُ فيها بمرارتها وحلاوتها، وأحمل جنسيتها وأتكلم لغتها، ولم يبقَ بلدٌ أوربي إلا وزرته، أستطيع القول يا ليتني ولدتُ في بلاد الكفار ولم أكن يوماً من بلاد المؤمنين والمقاومة.
عشرة أعوام مرّت؛ في العام الأول كنتُ أصارع فكرة العودة إلى الشرق الأوسط أو البقاء في هذه البلاد؛ لم أتحمل تقلّبات الطقس الكثيرة هنا، غير ذلك الهدوء، فرغم أنني أحبُ الهدوء لكن الهدوء هنا لا نهاية له، فهو يحتل الفراغ في الغلاف الجوي بأكمله؛ فلا حياة في الشوارع بعد الساعة الخامسة مساءً. في الصيف يختلف الأمر قليلاً، رغم أن الصيف فيه خجول ومزعج؛ فتلّوح الشمس من بعيد لأيام قليلة تكون فيها مضطربة وخجولة، وتبقى مشرقة حتى الساعة الحادية عشرة مساءً وتعود مجدداً في الساعة الثانية والنصف منتصف الليل، ومن الممكن أن تمطر لحظتها، المطر سيد الموقف في هذه البلاد، فهو يثبت وجوده دائماً، والشعب الدنماركي مثل بقية شعوب العالم، والذي يميزهم أكثر حبهم لبلادهم بشكلٍ جنوني، يختلفون فيما بينهم لكن يتفقون حين يتعلق الأمر بدولتهم؛ فيسمونها بلدنا الصغير الجميل.
تعودّتُ على الطقس فيها وطبيعة الشعب، تعودتُ على جميع تفاصيلها، حين أسافر إلى دولةٍ ما أشتاق إليها، هي البلد التي علمتني وعلّمت أولادي، وأعطتني أكثر من سورية التي عشت وكبرتُ فيها، فأصبح لها في داخلي حيزٌ كبير، ومن المؤكد أنني أريد أن أتمدد في قبري نهاية عمري في هذه البلاد.
0 تعليقات