في رحلة الكتابة النقدية والإبداعية، يصبح الحديث عن قضايا النقد والشعر والهوية بمثابة غوص في أعماق الفكر والتجربة. في هذا الحوار مع الدكتور خالد حسين، الناقد والشاعر السوري الكردي، نسعى لاكتشاف عوالمه الفكرية والأدبية التي تمتزج فيها رؤية نقدية عميقة مع تجربة إنسانية ثرية، تجسدها نصوصه وإبداعاته المتنوعة.

من خلال مسيرته الطويلة، استطاع خالد حسين أن يقدّم رؤية نقدية متميزة تتناول النصوص كعوالم مفتوحة على المجهول، مستنداً إلى مدارس ومفاهيم نقدية متنوعة تتراوح بين السيميائية والبنيوية وتعدّد الأصوات، مع استكشافه للخصوصية الثقافية واللغوية التي تشكلت في معترك هويته الكردية وتجربته في الكتابة بالعربية.

في هذا الحوار الذي يأتي ضمن سلسلة حوارات موقع "هلات" مع الأدباء والمبدعين السوريين، نفتح نافذة على تجربته النقدية والشعرية، ونسأله عن رؤيته للمفاهيم النقدية الغربية، تأثير الهوية على الفكر الإبداعي، ومستقبل النقد الأدبي في ظل العصر الرقمي. كما نتناول محاور أساسية تتعلق بدوره في استكشاف العلاقة بين النصوص والمكان، وتفكيك العلاقة بين الذات والعالم من خلال الكتابة.

كيف يتناول د. خالد حسين مفهوم النقد: هل يركز على مستواه المنطقي كأداة لفرز النصوص وفق المدارس النقدية، أم يراه كائناً حياً يستوعب التطور والانفتاح؟ وكيف أثّر ذلك على تجربته في الكتابة النقدية والتفكير النقدي الحر؟

لا أنظر في الحقيقة إلى لغة النقد وفق هذا الفصل بين الدلالتين المنطقية والاستعارية نظراً لأنّ المجاز خاصية أساسيّة في اللغة بمعنى لا يمكن بحال انتزاعُ اللغة من المجاز بمختلف تجلياته فالمجازُ يمنح اللغةَ هويتها في أن تكون، بل إنّ اللغة بذاتها حركة مجازية للعالم الذي نعيش فيه ومن ثَمَّ حتى هؤلاء الذين يزعمون الإقامة خارج المجاز لغةً لا يمكنهم التملُّص من فخاخه وتضاريسه التي تنهض في اللغة ما أن تشرع الأخيرةُ في العمل وإنتاج الخطاب. ومن هنا فقراءاتي النقدية في تواضعها نائية كل النأي عن هذا الفصل.  لاريب أنَّ "تجربة الكتابة النقديّة" قائمة على تداخلات معرفية وجمالية، تحدّدها النُّصوصُ قيد ــ القراءة، وفي كلّ نصٍّ تحدثُ تعديلات وتغييرات ومفاجآت في استراتيجية القراءة ومساراتها. نعم ليس ثمة من نقدٍ ما لم يتحرّك بفعل وطأة الشّغف، والمغامرة، والسّفر، والاكتشاف. القراءة سفرٌ ومجازفةٌ محفوفةٌ بالبحث عن لذة معرفية وجمالية. النصوص الفريدة، العالية بتضاريسها الوعرة وأسوارها العالية هي التي تحثُّ القارىء ــ النقدي على السّفر وتقدح الشّغف فيه. هذه النصوص هي أشبه بـ"ليلٍ" ينتظر التحدي، وكل اكتشاف مرهون بشجاعة القراءة وجسارتها على التوغل.

في الواقع يُعَدُّ "النقد"، في إطار الإفضاء، تجربةً في الانخراط بشؤون العالم وفلسفته عن طريق "النصوص" بوصفها تعلةً للنظر وتصاريفه في التأمل وكذلك بوصفها عوالمَ مشفّرة، مفتوحةً على المجهول والغياب، مشرفةً على التخوم المتقاطعة واللامرئي. قوة الفكر النقدي، أو التجربة النقدية في حقيقتها، تنبثق من كونها ذاتَ طابعٍ تقويضي بالنظر إلى رؤيتي للنشاط النقدي ذاته وذلك في علاقة "الذات" بـ "العالم" عن طريق النصوص، في هذه العلاقة الحوارية تتفكّك "الذات" عينها من أوهامها وتكشف النصوصُ عن عوالمها، أنساقها، شيفراتها. في هذا الانصهار أو التلاقي بين الآفاق يستيقظ الفعل النقدي وتتشكل الخبرة بالعالم والنصوص والممارسات الدّالة.  

نصوصك الشعرية الأخيرة تحمل عنواناً ذا دلالة (نداء يتعثّر كحجر)، وقد قمت بتقسيم عناوين فصول النص إلى (منعطفات)، والقارئ سيصادف تكرار عبارات ذات دلالة خاصّة، مثل: (تعبرني الرياح)، (العواصف تجتاحني)، (يعبرني الحبّ كمسافر)، (يسكنني حجر)، (يقودني ظلّك إلى اوراق ريح ناضجة)، (تنعطف أطراف النهار على أسرار البحيرة)، ماهي دلالة العبور والانعطاف والتعثّر والسكنى في نصوصك؟

ــ على الأرجح لا أدركُ هذا الأمر بصورةٍ واضحة...!

في الواقع ما أن يُنشَر النصُّ حتّى ينعتق من مزاعم مؤلّفه ويتمرّد على مقصدياته، ليخلق مساراً خاصّاً لحيواته المرتقبة، المتنوعة. وإذا حددنا أجناسية هذا النص، يمكننا القول إنَّ "العلامة الشِّعرية" هي الأقوى شكيمة في إحباط أية خططٍ مسبقة للمؤلِّف أو القراءة لتحديد معناها. هل يمكن الحديثُ عن دلالة ما حسب السياق للعلامة الشّعرية في سؤالك؟ بكلّ تأكيدٍ فالأمرُ متروكٌ للقارىء في تحريكِ العلامة الشّعرية وإسناد الدلالة لها في لعبة التأويل الأكثر تلاؤماً في قراءة النصوص الشعرية، ولكنه معنى برسم الإرجاء والاختلاف طيّ استمرارية المغايرة والمباينة.

دعني أنعطف إلى مسار آخر فيما يتعلق بالعبارات التي أوردتَها في سؤالك: "العبور والانعطاف والتعثّر والسكنى"، فهذه المحدّدات تُهكيل كينونةَ اللغة مع العالم، بل ترسم كينونة الكائن فيه، فمع كلّ مسارٍ من هذه المسارات أو المحدّدات ينبثق نبعٌ من التساؤلات الحرجة والجسيمة التي تعصف بالكائن لتجدَ تمظهراتها الدلالية في أفعال اللغة، فماذا الذي ينتاب المرء من مشاعر عندما يكتشف "نقشاً" على حجر خطه "عابرٌ" أو يتفرّس في صورةٍ وصلته حديثاً لمسقط رأسه؟ في هذه السنة أرسل لي صديق الطفولة (ع. خ) صوراً للقرية التي شهدت صرختنا الأولى. في الحقيقة ترافق مع هذه الصور حنينٌ غريبٌ لكنه حنين ممزوج بألمٍ ممضّ قاسٍ يتغلغل في تضاريس الجسد.       

 في ديوانك المعنون: (نداء يتعثّر كحجر) تحضر الأنثى بكثافة، هل يوجّه الشاعر (خالد حسين) خطابه إلى أنثى بعينها، أم أنّه يخاطب الأنوثة في كلّ معاني حلولها؟

تسعى الكلمة/ العلامة الشعرية إلى أسطرة الثيمات/ الموضوعات التي تتعامل معها ومن بينها "الأنثى"، وهذا ديدنُ الشّعر في ابتكار العالم أو اختراعه بصورةٍ يعثر على هويته في مماس المباينة، في العودة بالعالم إلى حالته المثيولوجية، الحالة الطازجة، الحالة التي تقوّضُ لوائح الممنوع والمصطنع والمزيّف لحساب "العالم" في حقيقته الشّعرية. هنا تقتربُ الكلمة الشّعرية من "الفضاء الديمقراطي" الذي يتيح بدوره للعالم أن يتفتّح بصورةٍ أصيلة وحقيقية وشعرية.  أما الأنثى قيد التخاطب في نصوص "النداء" فهي لا تخرج عن لعبة الأسطرة واستكشاف الممكن والمحتمل في طاقة التخيُّل، فهي ضربٌ من الواقعي والأسطوري، وهذه الخاصية المركبة الأخيرة تسكن في صميم كينونة الأنثى، إنها صوتُ البرية والمطر والأرض والسماء والليل والنهار، الصُّورة الوحشية للجمال، الصُّورة العنيدة للتجلُّد والاحتمال والصّبر... في نصّ بعنوان " سفوح، كباش ولسان معضوض" تحضر صورة الأنثى، أنثى محدّدة، عاشقة كردية في معقل الرّغبة والبداوة، والقوة، والجمال، والتحدي. على أي حال؛ ثمة صور متنوعة للأنثى في المجموعة الشّعرية تعكس الرؤية التي وصفتها في مشارف هذه الإجابة.

من يقرأ نصوص ديوانك الأخير يلاحظ إمعانك في استخدام ضمير المتكلّم مثل: (يعبرني، يسكنني، يختلسني، ... إلخ)، هل لهذا الاستخدام دلالة يوظّفها الشاعر في النصّ؟

لا أدري على وجه التحديد مدى إمعاني في استخدام "ضمير المتكلم" من عدمه؛ فالأمر منوط استكشافاً بالقارىء ــ النقدي وليس بي. ومع ذلك يمكنني القول إن "ضمير المتكلم"، في الفئة الفعلية المذكورة، الذي يتموضع تحت طائلة المفعولية، يعكس حالة التلقي بين العالم والذات، الذات المنفتحة لضربات قادمة من العالم بأحداثه وأشيائه وكائناته. إن العلاقة التي تجمع الذات والعالم تكمن في اللغة ذاتها، أو على نحو أدق في الاشتغال اللغوي الحاصل بين الطرفين، فالعالم لغةً، العالم الذي بات يمدُّ بجذوره في اللغة يكتسب هيئةً ما تختلف من لغةٍ إلى أخرى ومن ثمّ تتباين من استعمال إلى آخر. إنّ ضمير المتكلم هنا علامة إشارية، علامة تدلُّ نصياً على نقطة التداخل، التفاعل بين الذات والعالم، علامة، لا تدل على ذات منفصلة عن العالم، وإنما ذات في حالتي المفعولية والفاعلية مع "العالم"، ذاتٌ ملوَّثة بالعالم وعالم ملوَّث بأثر الذات، حالة من التذاوت/ التفاعل بين العالم والذات.    

طرحت المدارس الغربية مفاهيم متنوّعة في النقد مثل: (السيميائيّة والبنيويّة والتفكيك والألسنيّة وتعدّد الأصوات ... إلخ) وقد ساهم نقّاد وفلاسفة غربيّون كبار في ابتكار هذه المفاهيم مثل: (بول ريكور وجاك ديريدا وإدموند هوسرل وميخائيل باختين ورولان بارت وأمبرتو إيكو ... إلخ) في تعميق هذه المفاهيم، فهل كان لمدارس النقد الغربي أثر على منهجيتك النقدية في تحليل النصوص الأدبية؟ وهل ترى أن هناك حاجة لإعادة قراءة هذه المفاهيم من منظور عربي؟

من المنطقي أن الاتجاهات النقدية لدى الآخر ذات تأثيرٍ ساحقٍ شئنا أم أبينا في خريطة النقد عالمياً، فالأسماء التي ذكرتَها تتمتع بمكانةٍ أثيرةٍ في خرائط الفكر النقدي راهناً. علينا أن ندرك أيضاً أن الفكر بات معولماً، كما أن الممارسات الدلالية من نصوص أدبية وتشكيلية وسينمائية...إلخ لا تخرج عن الثيمات الأساسية التي يتشاركُ فيها العالم قاطبةً. لا شك أن الخصوصية عامل حاسم في عملية تشرُّب الفكر النقدي وتطويعه، بل ابتكاره وفقاً لخصوصية القارىء ــ النقدي. وأودُّ هنا أن أشير إلى مسألةٍ مهمة بتوسّع وهي أنَّ التموضع في فضاء فكر نقدي ما يرتبط إلى حدّ كبير بقدرة هذا "الفكر" على الاستجابة لمشاغل القارىء ــ النقدي في مواجهاته مع النصوص والثيمات قيد القراءة، بمعنى أن التنادي/ التقاطع بين الفكر النقدي وتشرُّب القارىء ــ النقدي له يرتهن، كما أشرتُ في مكان آخر، ليس إلى نوازع الرغبة المجانية أو متطلبات الدُرجة (الموضة) وإنما إلى استجابة الفكر النقدي المعني إلى رؤى القارىء ــ النقدي ومشاغله ومنظوره الأيديولوجي ــ الجمالي وماهية حضوره في العالم. وبناءً على ذلك لا تخرج استجابتي للفكر النقدي عن هذه الترسيمة.  

 أنت سوري من القوميّة الكرديّة، تعلّمت وكتبت نصوصك باللغة العربيّة، واكتسبت لغات أخرى عملت بها في حقل الترجمة، ثم هجرت سوريا إلى دول الشتات، كيف تؤثر جذورك وتاريخك الشخصي على رؤيتك النقدية والشعرية؟ 

نصوصي باللغة العربية! ربما الأمر لا يحتاج إلى تفسير واسع؛ فاللغة الكردية مُنعت في المؤسسة التعليمية في سوريا بمراحلها كافةً منعاً باتاً. ومع ذلك بقيت اللغة الكردية على المستوى الشّفاهي التداولي، بما هي كينونة وهوية وعلامة اختلاف، تصوغ طفولتي وكينونتي ورؤيتي للعالم، فهذه الإقامة في اللغة الكردية بإرثها الثقافي وجمالياتها وطرائق تقطيعها للعالم شكّلت الجذور أو أرضية لخاصية "الاختلاف". من هنا يأتي التأثير الحاسم لهذه الأرضية في تحديد رؤى المرء الشعرية والنقدية والسياسية أو مجمل الممارسات الدلالية التي يمارسها أو ينتجها المرء.

في الفضاءات غير الديمقراطية حيث يزدوج القهر والتهميش والتجاهل للكرد ولغتهم وثقافاتهم فمن المنطقي أن تأخذ الأبعاد القومية واللغوية والثقافية سمتها الاختلافي الحادّ في تشكيل الكائن وصياغته ولذلك ليس غريباً بالنسبة إلى الكرد هو النزوع الواضح في خطابهم العام إلى فضاء ديمقراطي يضمن الاعتراف بوجودهم ولغتهم وثقافتهم. وأعتقد أن تجربتي المتواضعة نقدياً وشعرياً تشكّلت في هذا المعترك الشائك مثل أغلب الكرد.

كيف ترى مستقبل النقد الأدبي في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي؟ هل ترى أن النقد يمكن أن يظل محافظاً على عمقه وثرائه في ظل السرعة التي تفرضها الوسائل الحديثة؟

في واقع الحال اطلعت على بعض النماذج النقدية المنجزة عن طريق الذكاء الاصطناعي، لكن بالنظر إلى رؤيتي المتواضعة فلا خوفَ على الفكر النقدي ولا على عمقِهِ أو ثرائِهِ طالما أنَّ الأمر مرتهنٌ بالإبداع وإرادته في إنجاز نصٍّ نقديٍّ، فإرادة الاختلاف/ التباين هو الذي يهب النقد الأدبي أو الثقافي أو الخطاب الفلسفي...إلخ العمق والثراء والغنى. إن العمق والثراء يرتبطان بأبعاد الذخيرة الثقافية وتنوعها لدى القارىء ــ النقدي وماهية الرؤية التي يقرأ النصوصَ بها وفيها، وغالباً ما تكون هذه الرؤية مكوّنة من طبقات ثقافية ونفسية ولغوية وأيديولوجية معقدة، علاوة على استراتيجيات القراءة وطرائق التأويل والخصوصية الأسلوبية للغة والمفاهيم المبتكرَة التي يفرضها النصُّ قيد القراءة، لذلك فالنقد الأدبي بوصفه المنطقة التي يرسمها تلاقي العلم والموهبة والخبرة سوف يستمر في أداء وظيفته في استكشاف النصوص بتشفيراتها وتعقيداتها وأسرارها.

 في كتابك "شعرية المكان في الرواية الجديدة ـ إدوار الخراط نموذجاً"، كيف ترى دور المكان في تشكيل هوية الشخصيات والنصوص الأدبية؟

أحد أهم الأسباب التي دعتني إلى دراسة "المكان" في الرواية تحديداً هو ارتباطي بالمكان الذي ولدتُ فيه ونشأتُ، أقصد منطقة "الجزيرة"، هذا السهب الذي يغفو بين كتفي دجلة والفرات. وفي الحقيقة أتاحت لي قراءة أعمال الروائي المصري المبدع إدوار الخراط الغوص في حقيقة المكان وشفيراته وأسراره. والرواية نظراً لشساعتها تمنح الروائيَّ المبدع المجال المناسب لرصد دور المكان في تشكيل هوية القوى الفاعلة من جهة والتأثيرات المتبادلة بينها والمكان وهذا ما يمكن أن يهبَ النصَّ أثر المكان المعني ووظيفته في الرواية وإسهامه في صناعة النصّ ذاته. غير أن المكان يطبع اللغة والكائن بطوابعه وخصائصه وسماته، بل إن اللغة ذاتها هي تمثيل للمكان أو تمثيل مكاني للعالم مع الأخذ بالحسبان أن الزمان هو البعد الرابع للمكان وبذلك يمكن الحديث عن "المكانية" بوصفها استراتيجية لقراءة النصوص وتأويلها. وأتمنى أنْ أختبر هذه الاستراتيجية المكانية في كتاب قادم.

هذا الوسم المكاني للغة والنص كان له تأثيره الكبير بالنسبة إليَّ في المضي قدماً لإعطاء طابع مكاني بحت لمجموعتي الشعرية الأولى "نداء يتعثر كحجر" والثانية "رشقة سماء تنادم قلب العابر: قيد الطباعة"، فأخضعتُ النصوص تنظيمياً لمفاهيم مكانية بحتة: "التضاريس، المنعطفات، الفسحات" للتأكيد على أهمية المكان ليس في تشكيل النصوص دلالةً وإنما على مستوى "الشكل المكاني" للنص ذاته، ولذلك يمكن بالفعل قراءة هذه النصوص بصورة مكانية.

ما الذي دفعك إلى استكشاف نظرية العنوان في الأدب؟ وكيف ترى أهمية العنوان في تشكيل توقّعات القارئ قبل ولوج عوالم النّص؟

أعتقد أنّ الدافع الأساسي يتهيكل ضمن استراتيجية التسمية التي تنزع إليها اللغة لجعل المسمّى في حوزة مَنْ يمارس التسمية، لذلك فالأمر يتعلق أولاً وأخيراً بلغز يرافق الاسم/ العنوان ذاته إذ تنبغي الإحاطة به تمهيداً للمعرفة أو التواصل أو السيطرة.

مقاربتي للعنوان انبثقت تحت تأثير الأفكار القادمة من عمل جيرار جينيت الشهير "عتبات" أو "عتبات التأويل" في ترجمته الإنكليزية، مع الإشارة إلى أنَّ العنوان يشغل مساحةَ فصلٍ واحد فحسب في عمل جينيت إلى جانب عناصر أخرى تخصُّ شجرة الموازي النصي، وكذلك فهذه المقاربة ذات صلة بأعمال عربية قليلة، تقليدية وحداثية، سبقتني آنئذٍ.

على أن الاهتمام بالموازيات النصية يعكس انعطافاً في سيرورة القراءة وصيرورتها بالانتقال من "الداخل" إلى "الخارج" نصياً أو من "المتن" إلى "مايوازيه"، وربما هذا التحول يعكس التأثيرات ما بعد الحداثية التي شغلتني لحظتئذ ولاتزال.

هنا تكمن الأهمية القصوى للتموضع على محيط العمل الأدبي أو مماسه. وبناء على ذلك لم يعد المتن النصي يمثل مركز الاهتمام وحده بقدر ما أن فهمه وتفسيره وتأويله يتوقف إلى حد بعيد على فهم خطاب"العنوان" ودلالاته إلى جانب العناصر الأخرى للموازي النصي التي تتكاتف لتجعل العمل ذاته ممكناً وحاضراً بين يدي القارىء.

تخيّل معي شخصاً دون اسم...!

تخيّل معي الآن كتاباً دون تسمية أو دون عنوان...!

هذا الحدث يكشف عن "أهمية العنوان في تشكيل توقّعات القارئ قبلالقراءة، فالعنوان/ التسمية لا يكتفي بتحديد هوية الكتاب والإعلان عنها وإنما يمثّل نافذة للقارىء يتكىء إليها لممارسة التخيّل والحوار مع "الكتاب" وبناء توقعاتٍ عن العوالم الداخلية له، حتى وإن أمسى المتن النصي في ذمة الفقدان. في هذا الصدد يذكر ابن النديم في كتاب الفهرست عناوين لمتون مفقودة حتى الآن مثل بعض الترجمات (أو الكتب) لابن المقفع.

وبالدخول على مسار القراءة والانجراف في تضاريس القراءة تتعدّل هذه التوقعات وتتبدّل من صفحة إلى صفحة أو من فصل إلى آخر. هكذا يتخذ "العنوان" دور الثريا أو المفتاح أو الممر للمضيّ صوب عالم الكتاب. نعم؛ العنوان دليل يدلنا على مدخل المتاهة.



الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).