مع تسارع وتيرة التحولات العالمية، أصبحت الديمقراطية تقف عند مفترق طرق، تواجه فيه تحديات غير مسبوقة تهدّد استقرارها وقدرتها على التكيف، فتغير المناخ، الأزمات الصحية العالمية، والصراعات الجيوسياسية، ليست سوى بعض الأمثلة على الضغوط التي تضع الأنظمة الديمقراطية أمام اختبارات معقدة.

شهد العالم في السنوات الأخيرة تحولات جذرية أثرت بشكل عميق على النظم السياسية والديمقراطية في شتى أنحاء العالم.

في كتابه «عند مفترق الديمقراطية: تحولات السياسة في القرن الحادي والعشرين»، يقدم الباحث ريتشارد يونغس تحليلاً لثلاث أزمات كبرى أعادت صياغة المشهد السياسي العالمي: أزمة المناخ، وجائحة كورونا وإرثها الاقتصادي، والصراعات الجيوسياسية المتصاعدة، ويرى يونغز أن هذه الأزمات، على الرغم من كونها تحديات خطيرة، لكنها تحمل في طياتها فرصاً لتجديد الديمقراطية وتعزيز قوتها، هذه الأزمات الثلاث الأخيرة مثلت اختباراً غير مسبوق لقدرة الديمقراطيات على التكيف مع ضغوط عالمية متزايدة، يرى يونغس أن هذه الأزمات هي أحداث مفصلية تعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الديمقراطية والسلطوية.

تحوّلات جذرية ملحّة

يقول الكاتب: «الرسالة الأساسية لهذا الكتاب هي أن هذه الأزمات الثلاث، مجتمعة، ستتطلب تحولاً جذرياً في طريقة عمل الديمقراطية، بعض جوانب التجديد الديمقراطي بدأت تتشكل، لكنها لا تزال بعيدة عن تحقيق التحول الجذري المطلوب» ويضيف: «القوى الإيجابية تكتسب زخماً، ولكن الجانب الإيجابي من تجديد الديمقراطية هو الأكثر لفتاً للانتباه في ظل القلق السائد حول تآكل الديمقراطية خلال العقد أو العقدين الماضيين، يمكن النظر إلى الديمقراطية على أنها تقف عند مفترقات طرق متعددة لهذه الأزمات المختلفة: السؤال هو ما إذا كان لنهضة ديمقراطية كاملة أن تنبثق من رماد أزمات المناخ والجائحة والصراعات الجيوسياسية».

ويرى المؤلف أن تغير المناخ والأزمة البيئية ليسا مجرد تحديات سياسية منفصلة، بل لهما تأثيرات بعيدة المدى على الاتجاهات السياسية حول العالم، فقد أصبحت التأثيرات السياسية لتغير المناخ أكثر وضوحاً واقتربت بشكل متزايد من نقطة تحول حرجة، أدّت الضرورة الملحة بشكل متزايد لمعالجة الضغوط البيئية في العديد من البلدان إلى تمكين هياكل الحوكمة الاستبدادية. وفي بلدان أخرى، دفعت السياسة نحو نموذج أكثر نخبوية ل«الديمقراطية الوصائية»، حيث سعت الحكومات إلى اتخاذ عدد متزايد من القرارات بعيداً عن ضجيج السياسة المفتوحة، ومع ذلك، فإن تغير المناخ أيضاً يُحفّز موجة واسعة من التعبئة والمشاركة الشعبية، والتي يمكن أن تتحول في النهاية إلى تحول ديمقراطي لأنها تؤثر على السياسة على المستويات العليا.

ويوضّح أنه مع تزايد وضوح وتأثيرات تغير المناخ، كان على العالم أن يستوعب ظاهرة أخرى بنفس الدرجة من الدراماتيكية والتحول، وهي جائحة كورونا، فالجائحة والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي صاحبتها أعادت تشكيل السياق للتطور السياسي بشكل جذري، ومع تراجع حالة الطوارئ الصحية، تركت وراءها ديناميكيات اجتماعية وسياسية متغيرة. استفادت الأنظمة الاستبدادية بشكل كبير من كورونا، وحتى الحكومات الديمقراطية شددت سيطرتها على الجهات السياسية والاجتماعية المعارضة، في الوقت نفسه، ازدهرت أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي في أعقاب الجائحة، وقد وضعت هذه الأسس لعصر جديد من المشاركة الديمقراطية المعدلة، مع تكييف الحكومات حول العالم لنماذجها الاقتصادية لتلبية متطلبات ما بعد الجائحة، فتحت تحركاتها الخجولة والجزئية بعيداً عن النيوليبرالية إمكانيات جديدة لتجديد الديمقراطية، ومع ذلك، لا تزال هناك عوامل متعددة تعوق تحقيق هذه الفرص بالكامل.

ويقول: «الجغرافيا السياسية الحادة للعصر الحالي تؤثر أيضاً على الديمقراطية، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أصبحت القوى الاستبدادية تهدد المعايير الديمقراطية بطرق متعددة. وفي العقد الثالث، أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تكثيف موجة استبدادية متصاعدة ضد الديمقراطية، مما أدى إلى دخول هذه التغييرات الكامنة في عصر جديد وزيادة مستوى التهديد بشكل كبير، ومع ذلك، أصبح هذا التحول عدائياً بشكل أوضح تجاه الديمقراطية.. ».

إصلاح الديمقراطية في عصر التقلّبات.

يشير الكتاب إلى أنه في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء، أصبحت التقلبات الهشة والمُتقلبة للديمقراطية قصة بارزة لعصرنا، قائلاً: «تواجه الديمقراطيات من حول العالم تحديات داخلية لا حصر لها، بدءاً من الاحتكاك الداخلي والاستجابات المتصلبة غالباً لأولويات الجمهور، إلى المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية التي لم تعد تحظى باحترام مواطنيها، ووصولاً إلى أصحاب المشاريع السياسية غير الليبراليين الذين يتآمرون للاستيلاء على السلطة، ومع ذلك، فإن الديمقراطية لا تُعاد تشكيلها فقط من خلال صعوباتها الداخلية، ولكن أيضاً من خلال تأثير ثلاث أزمات حاسمة تتقاطع مع ممارسة وعمل الحكومات التي تدّعي الاستجابة لاحتياجات وتطلعات مواطنيها: تغير المناخ، جائحة كورونا وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، هذه الأزمات التي تُحدد العصر زادت بشكل كبير من الضغوط على الحوكمة الديمقراطية، كما أنها تُسبب صعوبات شديدة للأنظمة الاستبدادية، وبالتالي تؤثر على التوازن بين الديمقراطية والاستبداد بطرق ليست واضحة أو مباشرة، أمام هذا السياق، هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في الافتراضات المتعلقة بما يُحفز أو يعيق التحول الديمقراطي، وما يقوي أو يُضعف المؤسسات الديمقراطية، وما هي الديناميكيات الكامنة التي تحكم الاستبداد الذي يزدهر مع تراجع الديمقراطية.

يدعو يونغز إلى التركيز على تعزيز التعليم السياسي والتوعية العامة بأهمية الديمقراطية كوسيلة لضمان الحقوق وتحقيق التنمية المستدامة، كما يشدد على ضرورة دعم الابتكار في الحكم الديمقراطي من خلال تبني تقنيات جديدة تعزز مشاركة المواطنين، مثل منصات التصويت الإلكترونية وحوكمة البيانات بشكل شفاف. ويرى أن الحكومات الديمقراطية يجب أن تكون قادرة على التكيف مع التغيرات السريعة من خلال تبني سياسات أكثر شمولية وتشاركية.

يقدم الكتاب الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد في 208 صفحات وتسعة فصول، رؤية متفائلة مشروطة بإرادة الشعوب والحكومات لتحقيق التحول الديمقراطي المنشود. وعلى الرغم من التحديات الكبرى التي تواجه الديمقراطيات اليوم، إلا أن يونغس يرى في الأزمات الحالية فرصة لتعزيز الديمقراطية وإعادة تعريف دورها في مواجهة الأزمات العالمية، فالنجاح في تحقيق هذا التحول يعتمد على مدى قدرة الديمقراطيات على التعلم من أخطائها السابقة، وإعادة بناء ثقة المواطنين في المؤسسات السياسية.

يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع الديمقراطية تجاوز هذه الأزمات واستعادة مكانتها كنموذج عالمي للحكم؟ الإجابة، كما يوضح يونغس، تعتمد على إرادة الشعوب واستعداد القادة لاتخاذ خطوات جريئة وجذرية لضمان مستقبل أكثر إشراقاً وعدالة للجميع.

*ريتشارد يونغز: زميل أول في مؤسسة كارنيغي للسلام ، شغل سابقاً منصب كبير المحللين في وزارة الخارجية البريطانية. وهو أيضاً أحد المؤسسين المشاركين ل«مركز الديمقراطية الأوروبية»، ومؤلف خمسة عشر كتاباً. 



مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).